فصل: تفسير الآيات (27- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (27- 35):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
{وَلَوْ ترى} حذف جوابه أي ولو ترى لشاهدت أمراً عظيماً {إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار {فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ} إلى الدنيا تمنوا الرد الدنيا ليؤمنوا وتم تمنيهم ثم ابتدأوا بقوله {وَلاَ نُكَذِّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} واعدين الإيمان كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن. {وَلاَ نُكَذِّبَ} {وَنَكُونَ} حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار {أن} ومعناه أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين، وافقهما في {وَنَكُونَ} شامي {بَلْ} للإضراب عن الوفاء بما تمنوا {بَدَا لَهُمْ} ظهر لهم {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} من الناس {مِن قَبْلُ} في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم. وقيل: هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من الكفر {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به {وَقَالُواْ} عطف على {لعادوا} أي ولو ردوا لكفروا ولقالوا {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، أو على قوله {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا إن إلا حياتنا الدنيا وهي كناية عن الحياة، أو هو ضمير القصة {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ} مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه، أو وقفوا على جزاء ربهم {قَالَ} جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: قال: {أَلَيْسَ هذا} أي البعث {بالحق} بالكائن الموجود وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث. وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق {قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا} أقروا وأكدوا الإقرار باليمين {قَالَ} الله تعالى: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بكفركم.
{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية {حتى} غاية ل {كَذَّبُواْ} لا ل {خسر} لأن خسرانهم لا غاية له {إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة} أي القيامة لأن مدة تأخرها مع تابد ما بعدها كساعة واحدة {بَغْتَةً} فجأة وانتصابها على الحال يعني باغتة، أو على المصدر كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته {قَالُواْ ياحسرتنا} نداء تفجع معناه ياحسرة احضري فهذا أوانك {على مَا فَرَّطْنَا} قصرنا {فِيهَا} في الحياة الدنيا أو في الساعة أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} آثامهم {على ظُهُورِهِمْ} خص الظهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم.
وقيل: إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحاً فيقول: أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم {أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} بئس شيئاً يحملونه، وأفاد {ألا} تعظيم ما يذكر بعده {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} جواب لقولهم {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل. قيل: ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو. وقيل: ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة {وَلَلدَّارُ} مبتدأ {الآخرة} صفتها: {وَلَدَارُ الآخرة} بالإضافة: شامي. أي ولدار الساعة الآخرة لأن الشيء لا يضاف إلى صفته. وخبر المبتدأ على القراءتين {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالتاء: مدني وحفص.
ولما قال أبو جهل: ما نكذبك يا محمد وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به نزل {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ} الهاء ضمير الشأن {لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} لا ينسبونك إلى الكذب. وبالتخفيف: نافع وعلى من أكذبه إذا وجده كاذباً {ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ} من أقامة الظاهر مقام المضمر، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والتاء يتعلق ب {يَجْحَدُونَ} أو ب {الظالمين} كقوله {فَظَلَمُواْ بِهَا} [الاعراف: 103] والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل. {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن قوله {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} ليس بنفي لتكذيبه وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس (إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني) {فَصَبَرُواْ} والصبر حبس النفس على المكروه {على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} على تكذيبهم وإيذائهم {حتى أتاهم نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله} لمواعيده من قوله {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171، 172] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] {وَلَقدْ جَآءكَ مِن نَّبَإِىْ المرسلين} بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين، وأجاز الأخفش أن تكون {من} زائدة والفاعل {نَّبَإِ المرسلين} وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ} عظم وشق {إِعْرَاضُهُمْ} عن الإسلام {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً} منفذاً تنفيذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها {فِى الأرض} صفة ل {نَفَقاً} {أَوْ سُلَّماً فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ} منها {بِئَايَةٍ} فافعل، وهو جواب {فَإِن استطعت} و{إِنِ استطعتم} وجوابها جواب {وَإِن كَانَ كَبُرَ} والمعنى إنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} لجعلهم بحيث يختارون الهدى، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} من الذين يجهلون ذلك.
ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله:

.تفسير الآيات (36- 41):

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم {والموتى} مبتدأ إي الكفار {يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ} هلا أنزل عليه {ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} كما نقترح من جعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وتفجير الأنهار خلالها {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً} كما اقترحوا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت {وَمَا مِن دَابَّةٍ} هي اسم لما يدب وتقع على المذكر والمؤنث {فِي الأرض} في موضع جر صفة ل {دَابَّةٍ} {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قيد الطيران بالجناحين لنفي المجاز لأن غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمرها {مَّا فَرَّطْنَا} ما تركنا {فِي الكتاب} في اللوح المحفوظ {مِن شَيْءٍ} من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت، أو الكتاب القرآن. وقوله {مِن شَيْءٍ} أي من شيء يحتاجون إليه فهو مشتمل على ما تعبدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} يعني الأمم كلها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض كما رُوي أنه يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً. وإنما قال: {إِلاَّ أُمَمٌ} مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما. ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال: {والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ} لا يسمعون كلام المنبه {وَبُكْمٌ} لا ينطقون بالحق خابطون {فِي الظلمات} أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه. {صُمٌّ وَبُكْمٌ} خبر {الذين} ودخول الواو لا يمنع من ذلك، و{فِي الظلمات} خبر آخر. ثم قال إيذاناً بأنه فعال لما يريد {مَن يَشَأْ الله يُضْلِلْهُ} أي من يشأ الله ضلاله يضلله {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح.
{قُلْ أَرَءَيتَكُم} وبتليين الهمزة: مدني، وبتركه: علي، ومعناه هل علمتم أن الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب والتاء ضمير الفاعل ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} من تدعون. ثم بكتهم بقوله {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} أي أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله دونها {إِن كُنتُمْ صادقين} في أن الأصنام آلهة فادعوها لتخلصكم {بَلْ إياه تَدْعُونَ} بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي ما تدعونه إلى كشفه {إِن شَاءَ} إن أراد أن يتفضل عليكم {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وتتركون آلهتكم، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} كأنه قيل: أرأيتكم أغير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه.

.تفسير الآيات (42- 55):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} رسلاً فالمفعول محذوف فكذبوهم {فأخذناهم بالبأساء والضراء} بالبؤس والضر، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد.
{فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي هلا تضرعوا بالتوبة ومعناه نفي التضرع كأنه قيل: يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء ب {لولا} ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فلم يزجروا بما ابتلوا به {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبواب كُلِّ شَيْءٍ} من الصحة والسعة وصنوف النعمة {فَتَحْنَا} شامي {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} من الخير والنعمة {أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزناً لما أصابه أو ندماً على مافاته و{إذا} للمفاجأة {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد {والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله.
ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم} بأن أصمكم وأعماكم {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} فسلب العقول والتمييز {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} بما أخذ وختم عليه. {مِنْ} رفع بالابتداء و{إِلَهٌ} خبره و{غَيْرِ} صفة ل {إله} وكذا {يَأْتِيَكُمُ} والجملة في موضع مفعولي {أَرَءيْتُمْ} وجواب الشرط محذوف {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ} لهم {الآيات} نكررها {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون عن الآيات بعد ظهورها، والصدوف الإعراض عن الشيء {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً} بأن لم تظهر أماراته {أَوْ جَهْرَةً} بأن ظهرت أماراته. وعن الحسن: ليلاً أو نهاراً {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار، ولن نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة {فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ} أي داوم على إيمانه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فلا خوف يعقوب.
{والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب} جعل العذاب ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله} أي قسمه بين الخلق وأرزاقه، ومحل {وَلا أَعْلَمُ الغيب} النصب عطفاً على محل {عِندِي خَزَائِنُ الله} لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول: {وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ} أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكية، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فلا تكونوا ضالين أشباه العميان أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إلي مما لابد لي منه، {وَأَنذِرْ بِهِ} بما يوحى {الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} هم المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه، أو أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} في موضع الحال من {يُحْشَرُواْ} أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يدخلون في زمرة أهل التقوى.
ولما أمر النبي عليه السلام بإنذار غير المتقين ليتقوا، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهى عن طردهم بقوله:
{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام، أو معناه يصلون صلاة الصبح والعصر أو الصلوات الخمس. {بالغُدوة} شامي. ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته، نزلت في الفقراء بلال وصهيب وعمار وأضرابهم حين قال رؤساء المشركين: لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك. فقال عليه السلام: {ما أنا بطارد المؤمنين} فقالوا: اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا بذلك كتاباً فدعا علياً رضي الله عنه ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فنزلت، فرمى عليه الصلاة والسلام بالصحيفة وأتى الفقراء فعانقهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} كقوله {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي} [الشعراء: 113] {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ} وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال: حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي وهو {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي وهو {وَلاَ تَطْرُدِ} ويجوز أن يكون عطفاً على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التسبيب لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} ومثل ذلك الفتن العظيم ابتليتا الأغنياء بالفقراء {لِّيَقُولُواْ} أي الأغنياء {أهؤلاءآء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} أي أنعم الله عليهم بالإيمان ونحن المقدمون والرؤساء وهم الفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ونحوه: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} بمن يشكر نعمته.
{وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} إِما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم. وكذا قوله {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم ومعناه وعدكم بالرحمة وعداً مؤكداً {أَنَّهُ} الضمير للشأن {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا} ذنباً {بِجَهَالَةٍ} في موضع الحال أي عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة، أو جعل جاهلاً لإيثاره المعصية على الطاعة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} من بعد السوء أو العمل {وَأَصْلَحَ} أخلص توبته {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} {أَنَّهُ} {فَإِنَّهُ} شامي وعاصم. الأول بدل الرحمة، والثاني خبر مبتدأ محذوف أي فشأنه أنه غفور رحيم. {أَنَّهُ} {فَإِنَّهُ} مدني الأول بدل الرحمة، والثاني مبتدأ. {إِنَّهُ} {فَإِنَّهُ} غيرهم على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: إنه من عمل منكم {وكذلك نُفَصَّلُ الآياتِ وَلتستبينَ} وبالياء: حمزة وعلي وأبو بكر {سَبِيلُ المجرمين} بالنصب: مدني. غيره: بالرفع. فرفع السبيل مع التاء والياء لأنها تذكر وتؤنث، ونصب السبيل مع التاء على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقال استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته، والمعنى ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه ومن يرجى إسلامه ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.